ساحة الطحطاحة :
الذاكرة الوهرانية

محمد بن زيان

ساحة  » الطحطاحة  » شكلت منذ عقود محطة اللقاء للقادمين إلى وهران، وملتقى المتسوقين، ومقصد من يتدبرون أمر معيشتهم اليومية بمزاولة التجارة، كما كانت الساحة التي احتضنت التيار الوطني الاستقلالي والتيار الإصلاحي إضافة لزوايا الطرق الصوفية التيجانية والعلاوية والدرقاوية والهبرية.. وهي الساحة التي كانت تنتشر فيها مقاهي تستقطب عشاق الطرب بمختلف طبوعه من البدوي والوهراني إلى الشرقي.

تاريخيا ترجع  نشأة الساحة إلى ما أحدثه التنظيم العمراني الذي اعتمده الجنرال لاموريسيار بين عامي 1841 و1847، وكان ذلك في سياق صياغة الوضع الاستيطاني الكولونيالي بإبعاد سكان المدينة عن مركزها، وحصرهم في هوامشها، وتم بذلك تشكل ما يعرف بحي قرية الزنوج، المشهور بحي المدينة الجديدة.

والطحطاحة هي قلب حي المدينة الجديدة، وهي ملتقى تفرعات الحي المجسدة لمكونات هوية المدينة، وحلقات تاريخها، فبجوارها ساحة سيدي بلال التي تحيل إلى الجنوب وإلى بعد هويتنا الإفريقي، ساحة احتفاليات القرقابو والديوان.. وفي الساحة زاوية  الطيب المهاجي مفتي وهران وأحد أعمدة جمعية العلماء ووالد أول طالب شهيد زدور إبراهيم، وفيها مدرسة الفلاح التي تعتبر من أبرز المدارس الحرة التابعة لجمعية العلماء وفيها درس المرحوم عيسى مسعودي مذيع  الثورة.. وهي ساحة ذكريات الفن الوهراني، في مقاهيها كان لقاء الفنانين وفي ساحتها كانت عروض فرق كالباندة الزهوانية، وفي فضاءها تشكل بلاوي هواري الذي صار أحد أعمدة الموسيقى الوهرانية وأحد مجددي الموسيقى في الجزائر المعاصرة.

كل جزء في الساحة يعتبر جرسا يذكر، يعتبر صفحة من صفحات ذاكرة، فقبل الثورة كانت محطة لقاء مناضلي الحركة الوطنية وأثناء الثورة عرفت الكثير من العمليات الفدائية، وعلى مقربة منها عاش الشهيد أحمد زبانة، وفي الشهور التي سبقت إعلان الاستقلال كانت مسرحا لجرائم منظمة الجيش السري ومن أفظعها جريمة تفجير في 28 فبراير 1962 وقارب عدد من قضوا نحبهم نتيجتها حوالي المائة.

هي أيضا جزء محوري من شبكة أسواق حي المدينة الجديدة، أسواق تجذب المبتاعين من داخل المدينة ومن خارجها، وتجذب الذين يسعون إلى تدبر المعيشة  بمزاولة التجارة غير منتظمة وبسبب ذلك صارت المدينة الجديدة موصوفة بـ: أم المساكين.. في الساحة طاولات ومحلات بيع الألبسة والأحذية وأيضا الساعات والنظارات وأيضا باعة الكتب ومحلات العطور والأشرطة الدينية.

رغم التغيّرات التي طرأت وأفقدت الساحة الكثير من خصائصها ومدد روحها، تستمر الطحطاحة كبؤرة محورية في وهران تجاريا واجتماعيا وثقافيا وروحيا، ساحة لقاء العابرين والقادمين إلى وهران ومنهم من يقيم في مراقدها وفنادقها كما هو حال النازحين الأفارقة حاليا، وسبق لمحمد شكري الإشارة إليها في « الخبز الحافي » كأول محطة له مع عائلته أثناء نزوحهم القصير.

وتكمن أهمية الساحة في مواقعها الذي يصل بين مختلف أنحاء المدينة، وهو ما جعلها الشاهد على كل أحداث المدينة من سنوات الجمر وسنوات الثورة إلى الهزات التي عرفتها الجزائر المستقلة كمظاهرات أكتوبر 1988 وأحداث 1991.

كانت الساحة طيلة عقود مشحونة بحيوية منبعثة من خصوصية وهران كبوتقة صهر باستيعاب المختلف، استيعابا يرسخ مقولة رامبو: « الآخر هو أنا ».. كان العديد من أهالي وهران وغيرها من المدن يحضرون في المواسم الدينية كرمضان من أجل الاحتفاليات التي تترافق وهذا الشهر الكريم، وكان جوها وفضاءها الحلقة التي استلهم منها علولة وقبله كاكي بعض أعمالهم المسرحية، وكان الإيقاع مركبا من مقاهي تمزج بين أغاني الشيخ حمادة وبين أغاني أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب.. ولكن كل ذلك تبدد، غير أنه استمر الأثر واستمرت « الطحطاحة » قطبا جاذبا.

الشاب خالد يتغنى بساحة « الطحطاحة »

يمكن اعتبار الساحة « بارومتر » قياس الحالة بكل تجلياتها وأبعادها، الحالة التجارية بحكم توسطها لشبكة أسواق ومحلات في مختلف أنواع التجارة ومنها سوق الذهب وسوق الصرف، والحالة الاجتماعية ففي الطحطاحة ينطق الوضع مترجما الشرخ الذي أحدثه تردي ضابط التوازن المتمثل في الطبقة الوسطى واتساعه بين أثرياء جدد وبين مسحوقين يتضاعفون وفي الساحة يمكن رصد أولي لتحولات المجتمع، والاتجاهات التي تتصارع وتتواجه بين نزعات طرقية لا زالت تمتد وموجات سلفية تكتسح الفضاء العام للساحة.

تحوز الساحة اليوم على مشاهد بعيدة اختفت وأخرى تخرج في فوضى عارمة قد تمسح نهائيا الآثار والخطوات التي تنبض بالتاريخ مفسحة المجال لتاريخ يصنع بدون وهج.